بقلم الكاتب الكبير : محمد بركات
تابعنا مع أحمد زكي وصوله إلى القاهرة ، وسقوطه في اختباراته معهد التمثيل أولا ، ثم نجاحه بعد ذلك ، وتخرجه ضمن دفعة عام 1972، وبداية عمله كمحترف في مسرحية “مدرسة المشاغبين” بأجر قدره “15”جنيها في الشهر ، وكيف عومل بمهانة في هذه الفرقة؟
أسند إليه المخرج جلال الشرقاوي دور”أحمد” ، وهو أحد طلبة الفصل المشاغب ،ولكنه لم يكن مشاغبا مثلهم بل كان يكتب لهم رسائل الحب بأجر زهيد، ويقول جلال الشرقاوي إن أحمد زكي ببشرته السمراء ، وعينيه الحزينتين ، وملامحه المفعمة بالأسى والشجن كان مؤهلا لتقديم مثل هذه الأدوار في الكوميديا السوداء.وكان مقدرا لهذه المسرحيه أن تعرض لمدة شهرين فقط بالأسكندرية في الموسم الصيفي إلى أن تعود الفرقة إلى القاهرة فى بداية موسم الشتاء في أكتوبر لتقديم مسرحية حقيقية تستمر لسنوات.
ولهذا بدأ عرض المسرحية في شهر يوليو عام 1972، وكان أحمد زكي في السنة الثالثة في معهد التمثيل،ولكن المسرحية المؤقتة التي عرضت قبل الموسم نجحت نجاحا ساحقا ،بسبب موضوعها الجديد ، وبسبب مجموعة الشباب يومئذ الذين قاموا ببطولتها ،لأنها لم تكن تدور في فلك الكوميديا المستهلكة التي تقوم على الثلاثي الخالد: الزوج والزوجة والعشيقة.
واستمر عرض المسرحية خمس سنوات متصلة ، وشاهدها الملايين على خشبة المسرح ،وحققت ايرادا بالملايين ، أيضا يوم كان ثمن التذكرة جنيهان فقط!! ومع أنهار الذهب التي انهالت على الفرقة ارتفع أجر أحمد زكي بواسطة من جلال الشرقاوي ، فأصبح ثلاثين جنيها في الشهر!!
وطوال هذه السنوات لعب أحمد زكي دوره الثانوي الذي كان أقرب إلى أدوار الكومبارس المتكلم ..لعبه في صمت دون أن ينبس بكلمة … وحتى لوكان في الدور ملامح تمثيلية ، وكان هو أعظم الممثلين ،وأفضل المواهب ،فماذا يمكن أن يفعل وهو الممثل الجديد المغمور وسط غيلان المسرحية ، وهما يومئذ عادل إمام ،وسعيد صالح ،فضلا عن عبد المنعم مدبولي الذي كان يلعب دور ناظر المدرسة قبل حسن مصطفى ، وعلى رأس الجميع ،استاذة فنها المدرسة “عفت” أو سهير البابلي.
وطوال عرض المسرحية ، ولسنوات عومل أحمد زكي معاملة اللئام على مائدة الكرام ،فقد رضي بأقل الأدوار شأنا ،وبأقل الفلوس اجرا، وكان من المحرمات عليه وعلى غيره أن يضحك الجمهور مثلا ، أويقول كلمة فيها “إيفيه” لأن الذي يضحك فقط هما عادل إمام وسعيد صالح وقد بلغت بهما السطوة إلى حد أن كان لكل منهما رقباء في الصالة يعدون عدد الضحكات لكل منهم ،الأمر الذي دفع جلال الشرقاوي إلى مقاطعة المسرحية وعدم الذهاب إلى المسرح بعد أن كان العرض ينتهي في الثالثة صباحا .
ووسط هذه الملحمة الرهيبة عاش أحمد زكي في هذا الجحيم من الاهمال والمهانة راضيا بأي شيء ،قانعا بالملاليم التي كان يتقاضاها من شباك التذاكر.. وطوى أحزانه بين جوانحه ،كما طوى موهبته في أعماقه ، وهو يتمزق من الألم في انتظار غد قد يأتي وقد لا يأتي ، مثل الأبطال المنتظرين في مسرحية “في انتظار جودو”!!
وطوال هذه السنوات لم أعرف صديقا مقربا من أحمد زكي سواي.. كنت قريبا منه ،فقد انفتح له قلبي ،وكنت أجلس إليه لساعات في كواليس المسرحية ، وأنا أشعر بحجم الحزن والمعاناة فى داخله ،فلم يكن له حجرة في الكواليس ، فهو أقل شأنا من أن تكون له حجرة،وكنت أجلس معه بالساعات طوال عرض المسرحية ، واقفا بين الستائر في جنبات مسرح الحرية بباب اللوق.
لقد تعاطفت مع هذا الممثل اليتيم الفقير الوحيد في مدينة القاهرة التي هي بلا قلب، كما وصفها شاعرنا العظيم أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته الشهيرة ،وكان سبب هذا التعاطف الذي تحول إلى صداقة ثم إلى حب هو احساسى بحجم المعاناة التي تمزق قلبه صباح مساء …وكان ينطبق عليه وصف “المذلون المهانون” الذين كتب عنهم ديستوفسكي في روايته الخالدة ،فنحن جميعا وإن توزعت الأدوار من نفس الطبقة،ومن نفس الأصول الريفية.
وثمة مئات مثل أحمد زكي يعانون البدايات ، وهم يبحثون لمواهبهم عن مكان ، ولوجودهم عن موطئ قدم !
كانوا بالعشرات ، إن لم يكونوا بالمئات .. خريجون من المعاهد الفنية وبالذات من معهدي المسرح والسينما فضلا عن معهد الموسيقى ..ومثلهم صحفيون يتزاحمون بالمناكب من أجل النشر،وبين هؤلاء وهؤلاء كتاب قصة وشعراء وأدباء ورسامون ونقادفن.. ووسط الجميع ومن حولهم مئات – هل نقول آلاف- من الموهوبين والموهومين الذين سقط تسعة أعشارهم في هذه المعركة الضارية التي لا ترحم ،ونجا منهم أقل من واحد في المائة بعد معاناة بطولية لا يعلمها إلا الله.
وكان أحمد زكي باصراره العنيد واحدا من هؤلاء الذين نجوا!
ورغم هذه النجاة بقيت المهانة التي عومل بها في فرقة الفنانين المتحدين غائرة في قلبه حتى آخر يوم في حياته .
وفي جلسة معه في شقته الفاخرة ،بعد أن أصبح نجما وسوبر ستار سألته عما إذا كان يوافق على أن يلعب دور البطولة المطلقة في عمل فني تقدمه الفرقة الشهيرة ،فانفعل وتغيرت ملامحه، وقال لي إنهم لو عرضوا عليه مشهدا واحدا مقابل ملايين الجنيهات لما قبل به ..وهذه الاجابة ترمز إلى حجم الجرح الذي ظل ينزف من أحمد زكي طوال سنوات ،وحساسية هذا الفنان ، وحجم الأحزان التي تنطوي عليها في أعماقه ..إنه اليتيم المظلوم الذي تنكر له أهله فتخلصوا منه بالزج به في ملجأ للايتام …وهو اليتيم الوحيد بلا أهل ولا صاحب ولا صديق في مدينة بلا قلب هي القاهرة ، وهوالممثل المؤهل الموهوب الذي لا يريد أن يعترف به أحد بسبب سمرته وبسبب ملامحه التي لاينطبق عليها مقاييس النجم من طراز أنور وجدي وحسين فهمي ،وكمال الشناوي وعمر الشريف حتى أحمد رمزي وحسن يوسف.
لقد كان على أحمد زكي أن يخوض معركة طويلة ومريرة مع المنتجين والمخرجين ، لكي يقنعهم أنه ممثل بحق وأن مواصفات النجم يجب أن تتغير ، وأن المشاهد يجب أن يرى ممثلا يشبهه …ممثلا قريبا منه ، وليس نجما يحلق في السماء ..ولكن المشكلة أن تراث الفن في مصر كان قد استقر ولمائة عام خلت على مواصفات لا قبل لأحد بها!
وكان المنتجون والمخرجون على حق في رفضهم له ،لأن النجم حين تحبه البطلة في العمل الفني فإنها سوف تحب فريد شوقي ،أو أحمد مظهر أو على الأقل نور الشريف …ولكنها – وهذا بديهي- لايمكن أن تقع في هوى شاب أسمر منكوش الشعر ، زري الهيئة ،حتى لو كان أعظم تمثيلا من أنطوني كوين،ومارلون براندو ،وآل باتشينو!
وهكذا بدا المستقبل مثل نفق مظلم بلا نهاية أمام أحمد زكي ..وكنت أحاول أن أرفع معنوياته بأنني ألمح ضوءا في نهاية النفق.
“الحلقة الرابعة”..حين طلع بدر البدور