بقلم الكاتب الكبير محمد بركات
في الحلقة الأولى من هذه الذكريات التي دفعتني إلى كتابتها ابنتي وتلميذتي الصحفية الموهوبة ، والإعلامية المحبوبة “مها متبولي” من أجل تنفيذ وصية “أحمد زكي” بكتابة القصة الحقيقية لملحمته الدامية التي طلبها منى قبل وفاته بثلاثة أيام..
في هذه الحلقة الاولى أجبت عن سؤال هو :كيف تعرفت على أحمد زكي وهو يومئذ شاب رقيق الحال في السادسة عشرة ،وكان يمثل في مسرحية بعنوان “الساقية” على مسرح الثقافة بالزقازيق .
ويومها طلب مني ،ومن رئيس لجنة التحكيم الفنان الكبير محمد توفيق “وببراءة شديدة،أن يعود معنا إلى القاهرة لأنه يحب الفن ويريد أن يمثل ..وهنا قال له الفنان الحنون :ياابنى الفن لم يعد هواية بل أصبح علما،فأكمل دراستك أولا ،ثم تعال إلينا في القاهرة، لتدرس التمثيل بشكل علمي.
وأسقط في يد الفتى فبكى ، فقلت له لأطيب خاطره يوم تحصل علي، الدبلوم تعال إلي في مجلة “الكواكب” وسوف تجدني.
ونسيت الشاب والفتاة إلى أن فوجئت يوما ، وأنا في دار “الهلال” العريقة بموظف الأمن ، وهو يدخل علي ومعه شاب لايدل مظهره أو شكله على أي قيمة ،وقال لي الموظف إن هذا الزائر كان ينتظر حضورك منذ الثامنة صباحا ، ويقول إنه يعرفك ، وأن له موعدا معك :قلت له متسائلا من أنت ومتى أعطيتك هذا الموعد؟
قال أنا أحمد ،وقد قابلتك منذ عام وسبعة أشهر في قصر الثقافة بالزقازيق يوم عرضنا مسرحية “الساقية”.
وهنا تداعت إلى ذاكرتي أحداث تلك الليلة ، فعاجلني هذا الشاب البسيط بقوله: “لقد حصلت على الدبلوم وأريد أن أمثل !!
قلت له : قبل أن تمثل يجب أن تدرس ،وقبل ان تدرس يجب أن تدخل معهد التمثيل ،وقبل أن تدخل المعهد يجب أن يقر الأساتذة الكبار في الفن ما إذا كنت موهوبا أم لا؟
ونزلت هذه الكلمات على قلب الفتى كالصاعقة ، فلم يرد فقلت له: المهم أن تبحث الآن عن بعض بلدياتك لتعيش معهم إلى أن يحل موعد الاختبارات في قبول الطلبة الجدد ،وبعد أن تجد مكانا تعيش فيه أخبرني به حتى أستطيع الوصول إليك .
وانسابت مياه كثيرة في مجرى النيل، قبل أن يعلن المعهد عن قبول دفعة جديدة،يومها عرفت أن هذا الشاب اسمه “أحمد زكي عبد الرحمن” وأنه من مواليد عام 1948.
ومن جانبي ذهبت الى مجموعة من اساتذة الفن ومن أعضاء لجنة القبول والاختيار في المعهد ولكن الجميع من سعد اردش حتى عبد الرحيم الزرقاني رفضوا مقابلته ، وكان الوحيد الذي وافق على أن يقابله هو الفنان والإنسان النبيل جلال الشرقاوي.
والمهم أنه دخل اختبارات المعهد ضمن ثلاثمائة طالب من المتقدمين ..دخل بلا استعداد او اعداد وكان كل اسلحته هيئته التي لا تسر عدوا ولا حبيبا ..دخل الأمتحان وهو يظن أنه أصبح ممثلا أو يكاد،لكنه سقط !! ..ببساطة لانه كان مطلوبا أن يقدم ثلاثة مشاهد تمثيلية ..مشهدا بالعامية ومشهدا بالفصحى ومشهدا بلغة “البانتومايم”، أي التمثيل الصامت،ولم يكن صاحبنا قد استعد بشيء منها لأنه لم يكن يعرف شيئا ، والمهم أنه عرف أن امتحان القبول يحتاج إلى استعداد، وإلى تدريب وأن هناك متخصصون يعدون الطلبة لهذا الامتحان وفق أجر يتفق عليه!!
واحتوت شوارع القاهرة الساحرة الساهرة هذا الفتى الذي راح يزورني من أسبوع لآخر في الوقت الذي كان يتلقى فيه دروسا عل أيد محترفين، على امتداد عام كامل ، انتظارا لليوم الموعود.
وحضر إلي ذات صباح في “المجلة” ليخبرني بموعد الامتحان ،فذهبت معه وفوجئت في نفس اللجنة بوجود الفتاة التي لعبت أمامه دور البطولة في مسرحية “الساقية” وهي “عائشة” وعرفت يومها من كشف الاختبار أن اسمها “عائشة محمد حمدي أحمد” وكانت قد حضرت مع ممثلة ثانوية محترفة تخصصت في دور العانس في الأعمال الفنية، لأنها كانت تمت لها بصلة قرابة أو معرفة أو أنها بلدياتها ، والأهم أنها تقيم في شقة بالهرم بجوار المعهد.
وظهرت نتيجة القبول ونجح “احمد زكي” وأصبح طالبا في المعهد العالي للفنون المسرحية ، كما نجحت الفتاة التي سنعرفها فيما بعد بانها الفنانة الجميلة “شهيرة”التي تفوقت في الدراسة وتزوجت من نجم السينما المبتديء يومئذ وهو”محمود ياسين”!!
وعلى امتداد سنوات ومثل كل أبناء هذا الجيل احتوتنا شوارع القاهرة ومقاهيها في وسط البلد، ابتداء من “لاباس” في شارع قصر النيل، حتى قهوة “كتكوت” في شارع معروف..كانوا بالمئات ..صحفيون وكتابا وقصاصين ،وشعراء ، وكتاب مسرح،وممثلين ورسامين
ومبدعين وصعاليك ومتشردين أيضا، فضلا عن مئات السابلة والعواطلية حول هؤلاء جميعا.
ولم يبرز أحمد زكي خلال دراسته بالمعهد إلا بأنه يقلد الممثلين الكباروبالذات محمود المليجي والمعروف أن التقليد ليس فنا على الأصالة ،والمهم أن هذا الفتى وطوال هذه السنوات لم يتخل عن هيئته التي لم تعرف إلى الهندام طريقا،بل ظل هو نفس الشاب “المبهدل” الذي بدا لنا طول الوقت أنه لن يصبح شيئا في دنيا التمثيل والفن !!
وكان الصراع ضاريا ،ولكنه كان شريفا،وكانت الساحة تنتظر الموهوبين الذين بدأت ملكاتهم تفصح عن نفسها يوما بعد يوم ،إنه صراع الوجود وإثبات الذات في معركة لاترحم!!
وكان أحمد زكي بتكوينه وشكله وهيئته التي لاتتغير ، في قلب هذا الصراع الذي خاضه وحده عاري الصدر بلا أسرة أو صديق او رفيق ،وإن كان مسلحا برغبة في التحقق وباصرار عنيد على أن يجد له مكانا تحت الشمس!
وسقط في هذه المعركة كثيرون منهم من لم يتحمل ضراوة الصراع ،ومنهم من لم يستطع أن يكمل المشوار برغم أن بعضهم كانوا من أوائل الخريجين في معاهد الأكاديمية المختلفة ،لكنهم لم يستطيعوا الوفاء بمطالب المهنة وشروط النجومية ومشقة البدايات في فن لا يرحم.
واخيرا ظهرت نتيجة البكالوريوس دفعة 1972ونجح “أحمد زكي”،وكان من نجوم هذه الدفعة “عفاف شعيب”و”عائشة حمدي”ومصطفى متولي واحمد عبد الوارث وعهدي صادق،ومنى قطان التي سنعرفها فيما بعد زوجة لصلاح جاهين.
وكما ينسب الفضل في قبول أحمد زكي في معهد التمثيل إلى جلال الشرقاوي ،فلا بد أن ينسب له الفضل أيضا في أول دور أسند له في مسرحية “مدرسة المشاغبين”،ولكن الدور لم يكن بطولة،او شبه بطولة ،بل كان أقرب إلى أدوار الكومبارس.
كان مجرد “أكل عيش” وبمرتب هزيل هو “15 جنيها ” في الشهر.. وقد رضي الممثل الموهوب بهذا كله ،لكنه عومل معاملة الكرام على مائدة اللئام.
الحلقة القادمة: ضوء في نهاية النفق.